الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فقلنا: ندخل المدينة فنثبت فيها ونذهب ولا يرانا أحد.قال: فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا.قال: فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرّارون؛ فأقبل إلينا فقال: «لا بل أنتم العكارون» قال: فدنونا فقبلنا يده.فقال: «أنا فئة المسلمين» قال ثعلب: العكارون هم العطافون.وقال غيره: يقال للرجل الذي يولّي عند الحرب ثم يكر راجعًا: عَكَر واعتكر.وروى جرير عن منصور عن إبراهيم قال: انهزم رجل من القادسِية فأتى المدينة إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، هلكت! فررت من الزحف.فقال عمر: أنا فئتك.وقال محمد بن سِيرين: لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال: لو انحاز إليّ لكنت له فئة، فأنا فئة كل مسلم.وعلى هذه الأحاديث لا يكون الفرار كبيرة؛ لأن الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا.وعلى القول الآخر يكون كبيرة؛ لأن الفئة هناك الجماعة من الناس الحاضرة للحرب.هذا على قول الجمهور أن الفرار من الزحف كبيرة.قالوا: وإنما كان ذلك القول من النبيّ صلى الله عليه وسلم وعمر على جهة الحيطة على المؤمنين، إذ كانوا في ذلك الزمان يثبتون لأضعافهم مِرارًا.والله أعلم.وفي قوله والتولي يوم الزحف ما يكفي. اهـ.
ونصبُه إما على أنه إما حالٌ من مفعول لقِيتم أي زاحفين نحوَكم وإما على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل مضمرٍ هو الحالُ منه أي يزحَفون زحفًا، وأما كونُه حالًا من فاعله أو منه ومن مفعوله معًا كما قيل فيأباه قوله تعالى: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابقِ إلى العدو أو بكثرتهم بل توجُّهُ العدوِّ إليهم وكثرتُهم هو الداعي إلى الإدبار عادةً والمُحوِجُ إلى النهي عنه، وحملُه على الإشعار بما سيكون منهم يومَ حُنينٍ حيث تَوَلَّوا مدْبرين وهم زحفٌ من الزحوف اثنا عشر ألفًا بعيدٌ، والمعنى إذ لقِيتموهم للقتال وهم كثيرٌ جمٌّ وأنتم قليلٌ فلا تولوهم أدبارَكم فضلًا عن الفرار بل قابلوهم وقاتِلوهم مع قلتكم فضلًا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم. اهـ.
ويجمع على زحوف لأنه خرج عن المصدرية، ونصبه إما على أنه حال من مفعول (لقيتم) أي زاحفين نحوكم أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر هو الحال منه أي يزحفون زحفًا وجوز كونه حالًا من فاعله أو منه ومن مفعوله معًا، واعترض بأنه يأباه قوله تعالى: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الادبار} إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابق إلى العدو وبكثرتهم بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الإدبار عادة والمحوج إلى النهي، وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم اثنا عشر ألفًا بعيد انتهى.وأجيب بأن المراد بالزحف ليس إلا المشي للقتال من دون اعتبار كثرة أو قلة وسمي المشي لذلك به لأن الغالب عند ملاقاة الطائفتين مشي إحداهما نحو الأخرى مشيًا رويدًا والمعنى إذا لقيتم الكفار ماشين لقتالهم متوجهين لمحاربتهم أو ماشيًا كل واحد منكم إلى صاحبه فلا تدبروا، وتقييد النهي بذلك لإيضاح المراد بالملاقاة ولتفظيع أمر الادبار لما أنه مناف لتلك الحال، كأنه قيل حيث أقبلتم فلا تدبروا وفيه تأمل؛ والمراد من تولية الادبار الانهزام فإن المنهزم يولى ظهره من انهزم منه، وعدل عن لفظ الظهور إلى الادبار تقبيحًا للانهزام وتنفيرًا عنه.وقد يقال: الآية على حد {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] والمعنى على تقدير الحالية من المفعول كما هو الظاهر واعتبار الكثرة في الزحف وكونها بالنسبة إليهم يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم أعداءكم الكفرة للقتال وهم جمع جم وأنتم عدد نزر فلا تولوهم أدباركم فضلًا عن الفرار بل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم فضلًا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم. اهـ.
وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في قتال بدر، ولعل مراد هذا القائل أن حكمها نزل يوم بدر ثم أثبتت في سورة الأنفال النازلة بعد الملحمة، أو أراد أنها نزلت قبل الآيات التي صدّرت بها سورة الأنفال ثم رتبت في التلاوة في مكانها هذا، والصحيح أنها نزلتْ بعد وقعة بدر كما سيأتي.واللقاء غلب استعماله في كلامهم على مناجزة العدو في الحرب.فالجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة واضحة، وسيأتي عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثْبُتُوا} في هذه السورة [45]، وأصل اللقاء أنه الحضور لدى الغير.والزحْف أصله مصدر زَحَف من باب منع، إذا انبعث من مكانه متنقلًا على مقعدته يجررِ جيله كما يزحف الصبي.ثم أطلق على مشي المقاتل إلي عدوه في ساحة القتال زَحفٌ؛ لأنه يدنو إلى العدو باحتراس وترصد فرصة، فكأنه يزحف إليه.ويطلق الزحف على الجيش الدهْم، أي الكثير عددِ الرجال، لأنه لكثرة الناس فيه يثقل تنقله فوصف بالمصدر، ثم غلب إطلاقه حتى صار معنى من معاني الزحف ويجمع على زُحوف.وقد اختلفت طرق المفسرين في تفسير المراد من لفظ {زحفًا} في هذه الآية فمنهم من فسره بالمعنى المصدري أي المشي في الحرْب وجلعه وصفًا لتلاحم الجيشين عند القتال، لأن المقاتلين يدبون إلى أقرانهم دبيبًا، ومنهم من فسره بمعنى الجيش الدهْم الكثير العدد، وجعله وصفًا لذات الجيش.وعلى كلا التقديرين فهو: إما حال من ضمير {لقيتم} وإما من {الذين كفروا}، فعلى التفسير الأول هو نهي عن الانصراف من القتال فرارًا إذا التحم الجيشان، سواء جَعلتَ زحفًا حالًا من ضمير {لقيتم} أو من {الذين كفروا}، لأن مشي أحد الجيشين يستلزم مشي الآخر.وعلى التفسير الثاني فإن جعل حالًا من ضمير لقيتم كان نهيًا عن الفرار إذا كان المسلمون جيشًا كثيرًا، ومفهومه أنهم إذا كانوا قلة فلا نهي، وهذا المفهوم مجمل يبينه قوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون إلى مع الصابرين} [الأنفال: 65، 66]، وإن جعل حالًا من {الذين كفروا} كان المعنى إذا لقيتموهم وهم كثيرون فلا تفروا، فيفيد النهي عن الفرار إذا كان الكفار قلة بفحوى الخطاب، ويؤول إلى معنى لا تُولوهم الأدبار في كل حال.
|